THE PUNSHER ,
عدد الرسائل : 133 العمر : 36 الموقع : سوريا العمل/الترفيه : طالب جامعي المزاج : غامض تاريخ التسجيل : 05/02/2008
| موضوع: ||¤|| العم ياسر ||¤|| × بقلمـــــــــــ ي × الجمعة مارس 28, 2008 6:50 pm | |
| العم ياسر
هبت رياح الصباح الباردة المشبعة بقطرات الندى بلطف و سكون تحت أولى خيوط الشمس التي تشق ببطء طريقها نحو الأعلى ايذانا بمولد يوم جديد
يوم ككل يوم ينتهي كسابقه..
تنقل العم ياسر بخطى متثاقلة في الشارع وحيدا و أقد أحكم ياقة معطفه حول عنقه اتقاءا للبرد و أنفاسه تتلاحق بسرعة مثيرة حولها سحابة من الضباب الأبيض الذي سرعان ما يختفي بين هبات الرياح الباردة...
كان يبدل مجهودا كبيرا بالنسبة لمن هو في سنه الكبيرة التي تخطت الثمانين و نيف وكان هذا يبدوا جليا في وجهه الغض التعب المكدود التي غرزت فيه سنين العمر الطويل شقوقا غائرة و خدودا عميقة تحكي بصدق بأس الحياة و واقع الحال المضني...
كان في طريقه الى دكانه الصغير في ركن قصي من الشارع بعد أن أنهى صلاة الفجر مع المصلين في الجامع وكدأبه منذ سنين على هذه العادة الحميدة...
وصل الى دكانه الصغير و تأمل بابه الحديدية التي كستها طبقة داكنة من الصدأ أخذت تغزو سطحه بكثافة مزيلة ما تبقى من طبقة الدهان الأخضر القديمة التي خانتها السنون في مقاومة الزحف الجارف لقوى الطبيعة القاسية..
أدخل العم مفتاحه في القفل الصدئ و أداره فاستعصى الأمر عليه لأنه أضحى صلبا عصيا على الفتح بعدما طالته أيدي التلف .. و ابتسم العم بسخرية و أخرج من جيبه قارورة صغيرة مملوءة للنصف بسائل داكن .. صب قليلا من ذاك السائل - الذي لم يكن سوى زيت الفرامل- على مدخل القفل ثم عالجه من جديد بالمفتاح فسمعت تكة خفيفة معلنة انهيار مقاومة القفل العنيد...
دفع العم الباب الحديدي بروية و صوت صريره المزعج يصك الآذان ..ففتح دلفتيه عن آخرها فخطى بتثاقل نحو الداخل حيث رائحة عطنة خانقة تعم الجو.. سعل على اثرها العم بشدة فعالجت يداه بسرعة نافدة صغيرة ففتحها ثم تقهقر خارج الدكان طالبا هواءا نقيا و نفسا يعيد له قليلا من القوة ...
جلس على الكرسي بمحاذاة دكانه يتأمل الشارع الخاوي الصامت ..لكم أحب هذا الهدوء و السكون الذي يبعث الدافئ و الطمأنينة في قلبه ..كان يدري أن هذا لن يستمر سوى لحظات قبل أن تبدأ عجلة الحياة بالدوران و تبدأ الروح تدب في الأجساد الخاملة التي توجهها الحاجة للعيش الى التثاؤب والاستيقاظ من السبات اليومي بحثا عن العمل..
وبالفعل بعد برهة قصيرة بدأت أولى بوادر النشاط تعم الشارع بدأ من الأخ عادل بائع الحليب الذي يجوب المنازل على دراجته العتيقة و صوته يخترق جدار الصمت..ثم تلاح من بعيد شبح حافلة تقترب بسرعة ثم مرت أمام دكان العم و عليها كتبت عبارة"نقل خاص بالموظفين" و التي كما تعود عليها العم ..تقف أما منزل جاره أحمد الموظف الشاب و زوجته بثينة حيث يستقلانها ومن ثمة تختفي بين الضباب باحثة عن موظف آخر...
ثم يمر موزع الجرائد بدراجته النارية الحمراء الشهيرة بصوتها المزعج لتقف كعادتها عند باب فيلا رجل الأعمال العجوز منصور حيث يستقبله وجه بوابها العم علي ليأخذ رزمة كبيرة من الجرائد .. فيعود الموزع أدراجه مارا أمام دكان العم ملوحا له بتحية الصباح..فيرد عليها العم بابتسامة واهنة و نظرات تلاحق خيط دخان الدراجة المزعجة قبل أن تختفي عن الأنظار..
يتثاءب العم بكسل و ينظر الى ساعته فيجدها قد قاربت السابعة و النصف قبل أن تلمع عينيه بنشاط و غبطة عاشق ينتظر حبيبته لتطل من شرفتها و يعانق وجهها للحظات قبل أن تختفي ..أو كمن يرقب سماع اسمه بلهفة لاستلام وظيفته الجديدة....
لا هذا و لاذاك..فقط كان ذلك الموعد من نوع آخر ...
عند السابعة و النصف بالضبط يمر صبيان صغيران ولد و فتاة بملابس المدرسة و على ظهريهما حقيبة ممتلئة عن آخرها بالكتب و الكراريس.. ما أن يمرا بالقرب من العم حتى يرتميان هاتفين باسمه في أحضانه الدافئة و العم تعمه غبطة و سرور شديدين ثم يخرج من جيبه قطعتين من الحلوى فيخطفاها بسرعة و العم مبتسم الثغر و عيناه كلها فرح فأضحى وجهه مشرقا مضيئا يحجب تجاعيد العمر الغائرة فيبدو لوهلة نضرا يانعا ينضح بالقوة و العنفوان..فما هي الا لحظات قليلة حتى يشيعهما العم بنظرات كلها ألم على الفراق و هما يحثان الخطى نحو المدرسة و أيديهما متشابكتان ثم انعطفا عند زاوية الشارع و العم يلاحق خياليهما عبر الفضاء .. عمر و سلمى أحب مخلوقين الى العم ياسر في هذه الدنيا التي يعيشها وحيدا بعد أن باعد القدر بينه و بين زوجته وولديه محمود و ناصر ..قدر قاسي خطف كل ما يملك في لحظة حتى ظن أنه لم يلبث معهم سوى ليلة أو ليلتين..
اللهم لا اعتراض..قانع بما جادت به الأقدار وصابر على الكرب..وشاكر على نعمة هذان التوأمان اللذين ردا لي الروح بعد طول فراق..
زفر العم في اعياء و عيناه مليئة بمشاعر دفينة تحكي عن صراع شديد في نفسه العليلة..
هز كرسيه ودخل الدكان ليبدأ عمله الدءوب و المضني باحثا عن لقمة عيشه وينتظر لقاء آخر النهار مع التوأمين عمر و سلمى عند عودتهما من المدرسة ومن ثم يغلق الدكان و يعود أدراجه الى البيت الصامت لينتظره ليل طويل كئيب لا يؤنسه خل و لا صديق حتى يطل الفجر معلنا بداية يوم جديد و بداية لقاء قريب مع الحبيب. | |
|